للمرّة الأولى منذ وفاته عام 1882، تمكّن فريق من الباحثين من إعادة تجميع مكتبة العالم البريطاني تشارلز داروين افتراضياً، لإتاحة الكتب والنشرات والمجلات التي استشهد بها، وقرأها عالم الطبيعة الشهير للجمهور.
وقالت شبكة "CNN" الإخبارية الأميركية، في تقرير نشرته الأحد، إن فريق الباحثين في "مشروع داروين عبر الإنترنت" أصدروا كتالوجاً مكوّناً من 300 صفحة، يجمع 7 آلاف و400 عنوان أصلي و13 ألف مجلد كانوا مملوكين في الأصل للعالم البريطاني، احتفالاً بالذكرى 215 لميلاده في 12 فبراير.
يتضّمن الكتالوج 9 آلاف و300 رابط لنسخ من محتويات المكتبة المتوفّرة مجاناً عبر الإنترنت، ما يساعد الجمهور على الاطلاع على كل ما قرأه داروين.
ونقلت الشبكة عن قائد فريق الباحثين الدكتور جون فان وايهي، مؤرّخ العلوم في جامعة سنغافورة الوطنية قوله: "إتاحة الفرصة لإلقاء نظرة تفصيلية غير مسبوقة على مكتبة داروين الكاملة، تتيح لنا أن نقدّر أن داروين لم يكن مجرد شخص يعمل بمفرده، بل كان خبيراً في عصره، يعتمد على العلوم والدراسات المتطوّرة وغيرها من المعارف".
أضاف: "حجم ونطاق الأعمال الموجودة في المكتبة، يظهر المدى الاستثنائي لأبحاث داروين في أعمال الآخرين".
المكتبة المفقودة
وكان داروين يحتفظ بسجلات دقيقة لمكتبته، بما في ذلك "كتالوج مكتبة تشارلز داروين"، المكتوب بخط اليد والمكوّن من 426 صفحة، الذي جُمع عام 1875.
وبعد وفاة داروين، تم الحفاظ على مكتبته وتسجيل كل ما بها، ولكن مع مرور الوقت، فُقدت الكثير من محتوياتها، أو انتهى بها الأمر في مكان آخر.
تمّ الاحتفاظ بمجموعتين رئيسيتين تضمان 1480 كتاباً في جامعة "كامبريدج"، وفي "داون هاوس" وهو منزل عائلة داروين في داون بإنجلترا، والذي لا زال مفتوحاً للجمهور، ولكن هذه المجموعات تضمنت فقط ما يقدر بـ15% من محتويات المكتبة الأصلية.
وبعد تلقي رسائل من الباحثين والجمهور للسؤال عن عناوين محدّدة في مكتبة داروين، بدأ فان وايهي وزملاؤه مشروعهم لإعادة إنشائها افتراضياً عام 2007.
وقال فان وايهي: "لقد بحث العلماء في حياة داروين وأعماله على مدى أكثر من قرن من الزمان، وأحد أهم العناصر في فهم نظرياته هو مصادره، والتي تتمثل في منشورات الآخرين التي استخدمها في أبحاثه".
استُخدمت مؤسسات مثل متحف "داون هاوس"، ومكتبة جامعة "كامبريدج"، بالإضافة إلى المجموعات الخاصة، لتعقب محتويات مكتبة داروين خلال عملية البحث التي استمرت 18 عاماً.
وعلى الرغم من عملية الحفظ المنظمة التي اتبعها، استخدم داروين طرقاً مختصرة أو غامضة بعض الشيء للإشارة إلى المجلات والنشرات في مجموعته، مع افتقار العديد من المواد إلى أسماء المؤلفين أو التواريخ أو المصادر.
وقام فريق المشروع بالتدقيق في كل ورقة عُثر عليها أثناء عملية البحث، فضلاً عن فحص الوثائق والرسائل العائلية المكتوبة بخط اليد، ودفاتر داروين، ومذكرات زوجته، وقوائم العلماء المكتوبة منذ قرن مضى.
ومن خلال مقارنة جميع الوثائق، وجد الباحثون آلاف العناوين التي لم تكن معروفة سابقاً، كما تتبعوا رحلة الكتب التي بيعت في المزادات على مدار المائة عام الماضية.
يقول وايهي: "كان الأمر أشبه بـ 5 آلاف قصة بوليسية صغيرة، من خلال محاولة معرفة اسم المؤلف أو المقالة التي يشير إليها داروين، وإنه لمن دواعي سروري العثور على هذه المعلومات، وعلى المصادر الدقيقة التي كان يشير إليها، ويمكننا الآن أن نؤكد أنه كان لديه الكثير من الكتب في مكتبته المذهلة".
مجموعة مثيرة للدهشة
وكان لدى داروين، بطبيعة الحال، ثروة من الكتب التي تتعلق باهتماماته العلمية الرئيسية، مثل علوم الأحياء والجيولوجيا، إذ كان يمتلك نسخة من مقال كتبه عالم الطيور جون جيمس أودوبون، والذي بيع في مزاد عام 1975، وكان بمثابة مصدر إلهام لأحد دراسات داروين أثناء إبحاره على متن سفينة "HMS Beagle"، إذ كان قد تم تعيينه في عام 1831 كعالم طبيعة على متن السفينة، وقام برحلة حول أميركا الجنوبية والجزر المحيطة بها، بما في ذلك جزر جالاباجوس، لدراسة وجمع النباتات والحيوانات.
كما كان يمتلك أيضاً نسخة من كتاب "استكشافات ومغامرات في إفريقيا الاستوائية" الذي ألفه بول دو تشايلو، وتضمنت مجموعة داروين أيضاً دورية ألمانية كشفت عن أول صور منشورة للبكتيريا في عام 1877.
ويضيف فان وايهي أن مكتبة عالِم الطبيعة الشهير كانت تحتوي على أعداد كبيرة من الكتب والمجلدات، ما يدل على تعطشه للمعرفة، مشيراً إلى أنه كان يقرأ أيضاً لفلاسفة مثل جون ستيوارت ميل وأوجست كونت، وكان لديه عدد من الأعمال عن علم النفس والدين والفن والتاريخ والسفر والزراعة وتربية الحيوانات وسلوكها.
وذكر فان وايهي أن ما يقرب من نصف الكتب كُتبت باللغات الفرنسية والألمانية والإيطالية والهولندية والدنماركية واللاتينية والإسبانية والسويدية، وهو اكتشاف مفاجئ بالنظر إلى أن داروين كان معروفاً بأنه فقير لغوياً وأذنه سيئة في تعلم اللغات.
تابع: "وجدنا أنه تلقّى تعليماً عالي المستوى للغاية، وتعلّم اليونانية القديمة واللاتينية في المدرسة، فضلاً عن الفرنسية، ثم تعلّم لاحقاً الإسبانية وبعض البرتغالية، كما علّم نفسه (مع استخدام القواميس) قراءة اللغتين الألمانية والإيطالية، وتمكّن بطريقة ما من تعلّم اللغات الأخرى بالطريقة نفسها، وهذا يوضح مدى تصميمه على اكتشاف ما نشره رجال العلم الآخرين واستخلاص المعلومات ذات الصلة بنظرياته".
ووجد الباحثون أيضاً أدلة على أن داروين كان يقرأ كتب رحلات المستكشفين، لفهم الإيماءات التي تستخدمها المجموعات العرقية المختلفة، كما استمتع بقراءة الروايات.
عام 2019، ظهرت نسخة من كتاب "زوجات وبنات" لإليزابيث جاسكل، في مزاد علني، وهي تحمل ملاحظة تقول: "كان هذا الكتاب المفضّل لدى تشارلز داروين، وآخر كتاب تتم قراءته له بصوت عالٍ".
يقول وايهي" "أن استكشاف مكتبة داروين الانتقائية يعرض جوانب مختلفة من شخصيته، كما أنه يسمح للناس بإلقاء نظرة ثاقبة على هويته كشخص".
وتابع: "هذا هو بالضبط ما يمكن أن تقدّمه المكتبة، إذ أصبح بإمكان أي شخص أن يتصفّح مكتبته بأكملها، والانطباع الذي توفّره هذه المكتبة هو أنه كان قارئاً نهماً، وأنه اطلع على عدد مذهل من الأعمال".