الكاتب: المتوكل طه
مسرحية ؛ 36 شارع عباس - حيفا
أسئلة الحكاية .. وشكلها
يكاد سراجُ المسرح الفلسطيني ،الذي ينوس، أن ينطفيء، وأن تعمّ العتمة أرجاء القاعات، التي طالما تلقّت وهج المنصّات، وأضاءت بصائر المتحفّزين، الذين خرجوا بعد الكثير من العروض؛ متصالحين على طريقة أرسطو التطهّرية، أو منذورين للانفجار ومُحتشدين على أسلوب بريتولد بريخت، عداك عن عشرات العروض التي اقتحمت التجريب، واجتهدت لأن تقدّم مقترحاً جَمالياً، تنوّع ما بين مُشابهة مسرح الفرجة وصاحبه ثيس بِس، مروراً بمسرح الورشة، والعلبة، والصالة، والدائري، والتجريبي، والمضطهدين، وصولاً للذين سبحوا في فضاءات المونودراما، إلى مَن استمرأوا أشكالاً عديدة هي "كولاج مسرحي" لا يخلو من الإثارة أو البحث عن طبخة مسرحية تحمل المضمون المُراد إيصاله.
وأراني مع الذي يقول بأنه لا قاعدة ثابتة في الفن، ولا مدرسة تكون خاتمة المدارس، إذ علينا أن نجرّب ونشتقّ الصيغ .. إلى أن يمتلك كلٌ منا عالمه الخاص به، ثمّ إنني مع ما يدعّم هذا المعنى في قول إرس ماردوك؛ بأن الفن هو الجهد القادر على تصوير الواقع في علاقات جديدة، تمور برغبة حارقة لاستحداث أنماطٍ وتجارب جمالية غير معهودة .. على أن يكون الفن حريّة وعصيان، وأن يُحدث أثراً، ويجعلك تشعر بشعور مختلف، وأن يوظّف أدواته بشكل خلّاق، ولا يتخلّى عن انجذابه الدائم لسِحر الخيال الفردي وحرّيته .. فالفن، في النهاية، صَنْعة تكتنفها المُتعة، والمزايا المُبهجة .. وهو إعادة تشكيل للحكاية.
دون تصنيف :
وتأسيساً على ذلك، لا أرى وجاهةً للسعي إلى تصنيف "شكل" مسرحية رائدة طه ( 36 شارع عباس)، وحشرها في فَهْم ضيق أو هامش نقدي تقليدي، بمعنى أنني أؤيد اجتراحها لشكلها الذي يناسب مضمونها، دون أن تتقيّد بحدود مدرسة مسرحية بعينها، ما دام هذا الشكل قادراً على حمل الرسالة والمُتعة والجَمال، الذي هو المسرحية في النهاية. فالقول أو الادعاء بأن مسرحيتها أقرب الى الـ"ستاند أب"أو الى "المونودراما" باعتماد التغريب أو القصّ أو الحكي، مصحوباً بلغة جسدية، لا يعني أكثر من حديث لمقاربة شكل المسرحية نظرياً، وهذا أمرٌ مهم، لكن الأهم هو قدرة هذا الشكل على حَمْل النصّ .. لا أكثر ولا أقل، ما دام محتفِظاً بألقِه وجماليته وفنيّته، ولم يسقط في الابتذال والوعظ والمباشرة والخطابية الناتئة.
ملاحظات :
وهنا أبدي غير ملاحظة، على ما سلف، أولها أن رائدة طه، وهي صاحبة حضور وسخرية وسِحر ومرونة، استسهلت، خلال المسرحية، الوقوف أمام المايكروفون لتأخذ دور الراوي، ويبدو لي أنه كان بإمكانها ايجاد طريقة فنيّة أكثر تميّزاً وجدّة لتوصل ما أراد الراوي قوله، وتقوم بإيصاله بطريقه مسرحية فنية بعيداً عن القول المباشر .
والملاحظة الثانية أن لغة رائدة الجسدية كان متقشّفةً، بمعنى أنها لم تفجّر طاقاتها التي رأيناها في مسرحيتها المدهشة العظيمة الأولى "ألاقي زيّك فين يا علي"، باعتبار أن اللغة الجسدية، بكل مكوناتها، هي أكثر نفاذاً وتأثيراً وسحراً من التبسيط المباشر للحراك على المنصّة، والمحدّد ببضع حركات فقط، فكانت لغة جسدها تقليداً أكثر منها أداء فنيّاً يعتمد الجسد واستطالاته الصوتية والأدائية.
والملاحظة الأخرى هي أنها كانت زاهدة جداً في الديكور والموسيقى والإضاءة، باعتبارها عناصر مُساندة ومكملة، تشحن الجسد وصاحبته ولغتها بمضامين تغلّفها وتصاحبها، وتجعلها أكثر ثقلاً واكتساحاً وتأثيراً.
لقد رأينا رائدة على الرّكح شبه وحيدة، ما يعمّق الضغط عليها ويزيد من الأثقال على كاهلها، ويُطالبها لأن تعوّض بحضورها الذاتيّ وامكانياتها الخاصة فقط، كل ما يلزم على المنصّة ليصل إلى الجمهور.
لقد كانت روبنسن كروزو الوحيد الذي عليه أن يعمل كل شيء لوحده، ويقوم بكل استحقاقات الحياة دون مساعدة من أحد ...ليبقى حيّاً.
وهنا أشهد لرائدة قدرتها الفائقة والعبقرية في إتمام الأمر وحيدةً .. ومع هذا ظلّ حضورها طاغياً، وأصداؤها تملأ المكان . إنها صاحبة حضور ساطع رنّان فائق الفتنة.
مقدمة صادمة :
أما مضمون المسرحية، وهو الشقّ الأكثر أهمية في نظر الجمهور الفلسطيني، فقد بدأ المفتتَح صادماً جداً !
لماذا ؟
لأن المسرحية انفتحت على نشيد "هتكفا"، وهو السلام الوطني لدولة الاحتلال ! والأكثر غرابةً أن رائدة كانت تردّد هذا النشيد تحت بقعة ضوء محدّدة .. وهنا تكمن الخطورة! لأنه لا ينبغي للبطلة الراوية أن تُردّد وتغنّي النشيد، حتى لا تصبح أو تظهر وكأنها صاحبته، فقد كان كافياً أن تستمع للنشيد، لتدللّ على أن ثمّة من هو موجود في حيفا المحتلة ويردّد نشيده، وليست هي.
ثمّ إن "نفي الأمر أحد أشكال تصوّره"، وهذا يعني أنني لو تحدّثت عن أيّة ظاهرة وجئتُ بها وناقشتها، فإنني بذلك أكون قد شَرْعَنْتُها وجعلتها حقيقة شرعية ملموسة، حتى ولو نقدتها أو وجهت أسهمي نحوها .. ذلك أنني تعاطيتُ معها.
ولأنني لا أوافق على حرفيّة هذا القول، بل مع روحه ! فإنه لا ينبغي أن أردّد نصوصاً اسرائيلية وانتقدها، لأن ذلك يوحي بوجودها "الشرعي" بالضرورة !
ولكن، ولأن الاحتلال واقع "غير شرعي بالفعل والضرورة" فإنني أتناوله وأعملُ عليه، ولا أعمل معه! وهذا ما قامت به رائدة، باستثناء تردادها لنشيد هتكفا وترجمته وقراءته بالعربية على لسانها !!
وأرى أن إشارتها إلى النشيد هتكفا مُبرّرٌ، حتى تقول، في الخاتمة، بأن نشيد "موطني" ، هو البديل الطبيعي والشرعي والتاريخي والحقيقي لهذه الأرض، بدلاً من هتكفا الغريب الطاريء، رغم رُعب فكرة أنها كانت تحلم بترديد النشيد خلال إحدى القمم العربية !
ومع هذا لا أرى ما يدعو لذبح المسرحية والإساءة لكل عناصرها المشتعلة، كما لا يعني أن نختزل المسرحية في هذا المشهد، مهما كانت ملاحظتنا عليه أو عنه.
تأصيل التاريخ :
وترجعني مسرحيات رائدة إلى موضوعة عدم تأصيل تاريخنا، فثمة نقصٌ جارحٌ نعاني منه، يتعلق بتأصيل تاريخنا النضالي والثقافي وحتى الاجتماعي وغيره ، الأمر الذي يستحيل معه جمع كلّ أو أهم ما يتّصل بالفلسطينيين في الداخل وفي الشتات ، وعلى كل الصّعد، كما نجد صعوبة بالغة في التعرّف على نتاجنا الثقافي والفكري والفني.
مثلما تؤكد المسرحية على أن لدى كلّ منا حكايته التي تصلح لأن تكون أكثر من فيلم أو مسرحية أو غير ذلك كالرواية والقصّة وغيرهما، كما تفتح المدى لأسئلة حارقة ما زالت بِرَسْم الشعب الفلسطيني بكل مستوياته.
وتكاد تكون رائدة طه من القلائل، فلسطينياً على الأقلّ، مَنْ يواجه ماكينة الدراما الصهيونية، التي انتجت وتنتج عشرات الأفلام، التي تقدّم سرديات زائفة وروايات ملفّقة وصوراً استشراقية مُعادية، تعزّز خطابهم العنصري وتخلق لهم مرافعات خائبة وشرعيّات مصنّعة وتوفّر لهم الذرائع الواهية التي تحاول لأن تكون وجيهة ومبررة.
هذا عدا عن مئات المسرحيات، منذ "هابئيما" مع مطلع القرن الماضي حتى اليوم، ما يعني أننا فَقَدنا الكثير من أدواتنا الاعلامية والدرامية والترجمات القادرة على مواجهة حمولة الاعلام الحداثي الجامح الصهيوني، وسيل منتجاتهم العميقة المميزة، للأسف، وأذرعهم ومراكزهم الثقافية والدعائية، التي أوصلوا من خلالها مقولاتهم ومداخلاتهم السياسية ورواياتهم المزيّفة والملفّقة عن أنفسهم وعنّا، واحتكروا من خلالها صور المظلومين في العالَم .
ان الدور الذي يلعبه الفن عموماً والابداع دائماً، وما يمثّله من قوّة ناعمة قادرة على الانسراب وتأصيل المدارك وتكوين الوجدان وصناعة المواقف وتجنيد الآراء وغسل الأدمغة .. يدفعنا لأن ننظر بجديّة أعمق وأكثر مسؤولية تجاه تراجع منتجنا الإبداعي، بسبب غياب الدعم والاهتمام الرسمي، وغياب الروافع المادية والمعنوية.
ورغم هذا.. تشرق رائدة مثل شمس فتيّة قادرة على الإشراق وإنبات حقول الرأي والوعي والتأثير في رفع المنسوب المعرفي والجَمالي، كأنها وحيدة، دون مؤسسات ترعى همّتها ولهفتها وسعيها الأنيق لخَلْق إبداع قادر على فتح خزائننا التي تفيض بالحسرات والأوجاع، وتمتليء بالحكايات التي لم يتناولها أحد، وهي ما يشكّل خيوط ثوبنا وروايتنا وقصّتنا القاسية.
أسئلة ملتبسة :
ولعلي أكتفي بالأسئلة المحورية التي طرحتها رائدة، وهي أسئلة وقضايا ملتبْسة وشائكة وساخنة تتّصل بعلاقة صاحب البيت الأصلي بالعائلة التي حلّت مكانها في البيت، وبمصائر أبناء أصحاب البيت الذين هربوا مُكْرهين من مدينتهم بسبب عسف ومذابح ومجازر وفظاعات العصابات الصهيونية، بمعنى أنه لم يكن هروباً مجّانياً أو اختيارياً بالمطلق، رغم مقولة الحفيدة المدوّية "يا ليتنا بقينا حتى لو ذُبحنا" ! لكنني كنتُ أطمع في أن يمتدّ العرض لأكثر … لأنه كان بإمكان رائدة أن تفتح شبابيك قضايا مغلقة ما فتئت مُبهمة أو غامضة، بالمعنى الوجودي والثقافي والسياسي والاجتماعي، ولا تفقد خيوطها مع حكاية نضال ووالديها والبيت الواقع في شارع عباس بحيفا ورقمه 36، مثل : أين وصل أبناء اللاجئ صاحب البيت الأصلي جميعهم، مثلما سلّطت الضوء على مصير أحدهم، لاعب كرة القدم الذي سيكون من حقه، وحده، أن يضرب الكرة، الضربة الأخيرة.
كما كان العرض يحتمل أن تعرّج على فكرة "شرعية" دولة الاحتلال بعد أن قام "صاحب الشأن" بالاعتراف لهم بالأرض! وهي قضية قابلة وواجبة للنقد العريض والمسؤول والتاريخ، لأنه ليس من حق ّ أحد، فلسطينياً على الأقل، أن يعطي ثلاثة أرباع فلسطين للغاصبين، ويقول علناً بأنه لن يعود لأرضه الأولى!!
كما كنت أتمنّى لو قامت رائدة بربط حَدَث استشهاد البطل علي والدها في مطار اللّد بالعرض بشكل مبرّر أكثر، وممتدّ إلى آفاق جديدة، تربط الكفاح والمقاومة كمفهوم حقيقي واجب الوجود مع هضم الأرض والسيطرة عليها وتهويدها من قبل الاحتلال.
وفي المقابل كان ثمة تلك الإشارة العميقة والذكّية المتصلة بمفارقة النمسا، التي شكّلت أرض المتناقضين اليهودي والفلسطيني، وتعمل على توسيع هذه الإشارة المتاحة ذات القماشة العريضة، كما كان ممكناً أن تتناول مفهوم "العودة" بغلاف إنساني يسترعي الانتباه، لا يتوقف عند أن يقوم علي الرافع بتسليم المفتاح للابن الزائر، لأن الذي ينبغي عليه أن يُسلّم المفتاح لابن صاحب البيت الأصلي، اختيارياً أو إجبارياً، هو اليهودي المُغتصِب.
باختصار، إن رائدة في هذا العرض الشائق الماتع، وبالاستناد إلى "النصّ" الذي هو الأقرب إلى الوثائقي، كما في مسرحية "علي" المدهشة، فإنها تقدّم بطاقة ومرافعة ناصعة وحقيقية وساطعة، لا يشوبها شائب، من أرشيف المظلمة الثقيلة التي حلّت على فلسطين وأهلها وبيوتها، ما جعل النصّ مُحْكماً بعيداً عن التباين أو الاختلاف أو الشك، لأنه نصّ من لحم ودم ونبض، ما زال يدقّ في صدر حيفا، ويخرّ في شرايين الشوارع والبيوت.
ولأنه عرض يتكيء على "حقيقة" وليس على خيال أو صناعة أو حكاية متخيّلة، فإنه يبدو مثل رمح اسطوريّ يشقّ الظلمة ويشعل المواقد في العتمات.
وكعادة رائدة التي تنقل الشارع والصالة والغرف والحارة إلى المنصّة .. فإنها بذلك تنقل "حرفيّاً"، وكأنها تثق بقوة الواقع وقدرته على تجاوز الخيال، أو كأنها تخشى على كل شيء فلسطيني من التبديل والتغيير والتزوير .. لهذا ربما تنقل كل شيء كما هو حرفياً، حتى لهجة البطلة وحركاتها ونغمة صوتها. وقد لا يكون سيئاً لو تحرّرت رائدة من هذه الحرفيّة، وأطلقت قدراتها لتجنّح وتضفضف .. مع إقراري بجمالية وخصوصية البطلة وتفرّدها البديع. وهذا يجعل مسرح رائدة بعيداً عن كلّ ما له صلة بالفنتازيا أو اللامعقول أو العبث أو الكلاسيكية، ويجعله مسرحاً، إذا ما تواصل، قادراً على تأسيس مدرسة أو ذائقة مسرحية جديدة .. مع أنه مسرح بعيد عن مفردات المسرح الثقيل ومدارسه ونظرياته الوازنة.
إنني أقدم كامل احترامي وإعجابي لرائدة، غزالة الإبداع الفلسطيني، السادرة في براري الخَلْق والانتماء والجَمال، برشاقة وإدراك واحتراف.
وكلّ العرفان والمحبة والشكر لعائلة علي رافع جميعها، وخاصة لنضال الشخصية الاستثنائية في كل ما هو لافت ورائع ومضيء.
وكل المحبة والاعتزاز بكل فلسطيني ظلّ راسخاً هناك في الكرمل أو النقب أو المثلث، أو ما زال يحمل المفتاح والكوشان والمنديل، ينتظر لأن يعود غير منقوص، إلى وسادة السحاب، أو إلى شُرفة البحر .. وإلى أغنية الجارات المذهلة.