للناقد السعودي جبريل السبعي آراء جريئة في النقد الأدبي، وقراءات عديدة في الموروث الشعري، يعنى كثيراً بالتراث الأدبي واللغوي عند العرب، وفيه ألّف العديد من الكتب، مثل، «التوحش» في الموروث الشعري، و«الفوضى» في التراث اللغوي والأدبي عند العرب، و«معمار النص»، و«المتخيل والملفوظ»، إضافة إلى كتب أخرى.
قليل الحضور في منصات التواصل والمنابر الثقافية، لكنه منتج في التأليف والكتابة، وقارئ ومتابع جيد للساحة الأدبية، أدرك مع المتابعة والقراءة والتحليل بعض مشكلات الساحة الأدبية لدينا وله العديد من الآراء حول ذلك يكشفها لـ«عكاظ» في هذا الحوار.
• لماذا ترى (كناقد أدبي) أن كثرة النكرات، والحروف الزائدة، وتوالي المضافات، والإكثار من المفاعيل أصبحت هنات غالبة في قصيدة اليوم ؟
•• من المؤكد أنه لا يمكنني التعميم، فالمتن الشعري العربي في منأى عن مثل هذه الهنات، ولكن الشعراء لدينا -أقصد في جازان- عددهم كبير، ومع ذلك قل أن تجد فيهم شاعرا مسكونا برؤى مختلفة، أو بلغة خاصة مبتكرة، ذلك أن الأكثرية تنزع إلى التقليد، وتستسهل قول الشعر، وحيث هم كذلك؛ فإن متننا الشعري تطفو على سطحه مثل هذه الهنات، وقلة فقط من الشعراء -كما أسلفت- يمكن التعويل على نتاجهم الشعري المختلف.
• المديح والإطراء تراهما ثقالة روح، وبلادة عقل.. هل يشمل هذا التوصيف الأدب والثقافة أيضاً؟
•• التمادحُ، لا يشي فقط بثقل في الروح، أو بلادة في العقل، وإنما هو حجاب أيضا، والملاحظ في المجموعات عبر الواتساب، وفي مختلف وسائل التواصل الاجتماعي أن الفئات المعنية بإنتاج الآثار الجمالية، من أدب، أو رسم، أو تصوير، تتوق إلى المديح، بل تستجديه -في كثير من الأحيان- فيما هي ترفض النقد الحقيقي، وعندئذ يصبح هذا «التمادح الاجتماعي» حجابا، يمنع عن المتمادحين فرصة اكتشاف جوانب القصور، ومن ثم فرصة التنمية، والتطوير.
• وماذا عن الطبع والتكلّف من منظور نقدي؟
•• الطبع والتكلف، مصطلحان نقديان عني بهما النقاد القدامى، من أمثال: الأصمعي، والجاحظ، وأبي هلال العسكري، وابن قتيبة، وغيرهم، وحتى تبلورا أخيرا في قضيتين نقديتين، هما قضية البديع، التي حمل لواءها أبو تمام، باعتباره شاعر الصنعة، والتكلف، وقضية عمود الشعر، التي مثلها شعريا البحتري، باعتباره شاعر الطبع، والسجية، وأرى أن الشعر وغيره من الفنون إنما ترتفع درجة إتقانها، وتحوز على جودتها، بالمراجعة، والتثقيف، والتنقيح، وأن محاولة الإنتاج دون إعمال الفكر، وإجهاده، إنما هو مظنة التفاوت بين الجودة والرداءة.
• أشياء كثيرة حولنا نألفها، لكننا في المقابل لا ندركها كقيمة، كيف؟
•• هذا كلام صحيح، ويذكرني بمقولة شوبنهاور: «كلّما قلّ حظ الإنسان من الذكاء بدا له العالم أقل غموضا»، والألف يزرع في ذهن الإنسان أنَّ ما يحيط به من أشياء، وظواهر، إنما هي من البساطة، والوضوح، بحيث لا تحتاج إلى مزيد فهم، بينما -في الحقيقة- أقرب الأشياء إلينا؛ بمجرد أن نفكر في ماهيتها، أو في آلية عملها، تستحيل فجأة إلى شيء معقد، يصعب فهمه، وهذا الكلام ينطبق على الزمان، والمكان، والروح، وحتى على طريقة مشينا على قدمين، فما أصعب هذه الطريقة، حينما نعيد النظر فيها من وجهة فيزيائية.
• هل من علاقة بين العقل الجمعي لدينا، والحساسية المفرطة التي باتت تسيطر على الأفراد بشكل كبير، وفي مقدمتهم النخب الثقافية؟
•• من المؤكد وجود صراع تاريخي بين العقل الفردي، الذي يطمح إلى أن يحقق ذاته، من خلال حريته، وقناعاته، والعقل الجمعي، المحكوم -عادة- بفكرة الآبائية، والعصبية، والعادات، والتقاليد، وضرورة الاتّباع، أقول من المؤكد وجود هذا الصراع في كل المجتمعات البشرية، منذ وجد الإنسان على هذه البسيطة، وليس الإشكال إلا في أن يتحول هذا الصراع إلى شكل من أشكال التنافي، فعندئذ تلجأ الأطراف المتصارعة إلى البدائل المضادة، ثم تنتقل من حيز التضاد، إلى حيز التناقض، ومثل هذه الحالة الأخيرة -من المؤكد أنها- لا تبني حضارة، وإنما تهدم الإنسان من أساسه، وحساسية النخب تجاه العقل الجمعي، لا شك أنها حالة إيجابية، ما دامت ترمي إلى التحقق الإبداعي، بالوسائل الأكثر تحضرا ووعيا.
• كناقد، ما أبرز مشكلات البحث الأدبي والنقدي اليوم؟
•• أظن أن من أبرز المشكلات التي يعاني منها البحث الأدبي والنقدي اليوم؛ هي غياب الرؤية النقدية ذات البعد الفلسفي، وكذا المنهج المؤسس على قاعدة نظرية صلبة، وليس الإشكال في عدم وجود مثل هذه الرؤى، وتلك المناهج، فمن المعروف أن هنالك نتاجا نظريا غربيا هائلا، وهنالك -أيضا- مناهج نقدية وافدة، سياقية، ونسقية، وإنما الإشكال يكمن في ضعف الوعي، بضرورة التلقي عبر إطار تقننه الأبعاد النظرية، والمسالك المنهجية، وعليه فإن الساحة -اليوم- تعج بعدد من النقاد، نلاحظ أن أكبر همهم التعبير الإنشائي، عما يخالجهم، تجاه الآثار الأدبية، التي تدغدغ أحاسيسهم، ومشاعرهم.
• لماذا تنبذ أفكار القطيع؟ وكيف تتعامل معها؟
•• دعني أستعمل عبارة: العقل الجمعي، بدلا من القطيع، لاعتبارات اجتماعية لا أكثر، وعن نفسي، بالفعل أنبذ أفكار العقل الجمعي، لما ذكرته في إجابة سابقة، ثم إنه ثبت بالوقائع أن التاريخ إنما ينحاز للأفراد، وأن الإبداع إنما يقع على عاتق الأفراد، وأن الخلود إنما يكون من نصيب الأفراد، وهل كان أفلاطون، وأرسطو، وامرؤ القيس، والمتنبي، ونيوتن، وآينشتاين، وغيرهم من الفلاسفة، والأدباء، والعلماء، إلا أفرادا؟.
• الفضاء الرقمي يمتلئ بالسرقات الأدبية والفكرية.. كيف يرى جبريل السبعي تعامل الناس مع هذه السرقات؟ وكيف تنظر إليها بوصفك ناقداً؟
•• الفضاء الرقمي ليس فضاء علميا، فالذين يرتادونه هم خليط من الناس، يتفاوتون في أعمارهم، وفي أخلاقهم، وكذا في مقدار علمهم، وفي درجة وعيهم، وهنالك اختلاف -أيضا- في الأماكن التي تقطنها هذه الكائنات الافتراضية، فهناك من يسكن في أقصى الشرق من الأرض، وهناك من يقطن في أقصى غربها، ومن الصعب تطبيق لوائح الحقوق الفكرية، على نحو رادع لجميع المنتحلين في أنحاء العالم، ولذا فمن طبيعة هذا الفضاء أنه يغص بالرفيع، والوضيع، بالجميل، والقبيح، على مستوى الكائنات الافتراضية (البشرية)، وعلى مستوى المعلومات التي تتناقلها هذه الكائنات.
• لك كتاب في «التوحش» وقد اعتمدت في تفسير هذه الظاهرة على البيئة.. حدثنا عن الكتاب، وعن الأسباب التي جعلتك تعتمد على البيئة في تفسير هذه الظاهرة، وانعكاسها على بقيّة الحالات؟
•• كتاب «التوحش» هو امتداد لكتاب سبقه عنونته بـ«الفوضى»، وفي «التوحش» سلطت الضوء على حالة اجتماعية، أصابت فئة الصعاليك والشذاذ، في الجاهلية وما بعدها.. إلى بداية العصر العباسي، وكان سبب هذه الحالة المتوحشة حالة من التضاد في بيئة الجزيرة العربية، حيث ولَّد التباين بين مناطق الخصب، ومناطق الجدب، حالة من الصراع الاجتماعي، كما أن هذا الصراع أدى -من جهة- إلى وجود حالتين اجتماعيتين، هما: العصبية القبلية في الداخل، والتحالفات السياسية مع القبائل الموالية في الخارج، ومن جهة أخرى، أدى -أيضا- إلى نبذ كل الذين لا ينتمون إلى القبيلة نسبا، أو عصبية، ومع مرور الوقت، كوَّنت هذه الفئات المبعدة عن القبائل؛ جماعات غاضبة احتضنتها الهوامش، فتربت في المجاهل، وتزودت بالرؤى الوحشية، وكانت تعدو على المناطق المأنوسة، بقسوة شديدة، ووحشية بالغة، وكان الهدف من هذا الكتاب، هو تشخيص أسباب التوحش، وكشف خطره.
• لاحظت أنك قدمت ورقة نقدية في إنتاج الدكتور عبدالحميد الحسامي، بعد أن قدّم ورقة نقدية في أحد أعمالك.. هل هذه القراءات استحقاق، أم رد جميل؟
•• الدكتور عبدالحميد الحسامي، والدكتور محمد سيد عبدالعال، ومن قبلهم الدكتور أسامة البحيري، والدكتور أيمن بكر، وغيرهم، كتبوا عن تجربتي النقدية، وليس في وسعي -حقيقة- أن أظل أجامل الذين كتبوا عني، فأكتب عنهم، ولكن قد تجد في نتاج الذين من حولك مادة يتطلبها موضوعك، فيكون حينئذ هذا النتاج خيارا موضوعيا، وهكذا وجدت النتاج النقدي للدكتور عبدالحميد الحسامي، عندما كنت مهتما بالاتجاه الواقعي في النقد العربي الحديث، وقد صادف أن جاء تناولي لنتاج الحسامي، بعد ندوته النقدية التي قدمها عن كتابي التوحش، الأمر الذي سوغ لوجود سؤالك الطريف.
• إلى أين وصل خلافك مع الشاعر علي الأمير؟
•• كان خلافي مع الشاعر علي الأمير على كيفية إنجاز القراءة النقدية، وعلى مشروعيتها، وهي مسألة موضوعية في الدرجة الأولى، وقد اختلفت -أيضا- ومازلت اختلف، مع الذين رأوا أنه ليس من الضروري، أن أناقش الأمير في قراءته للشاعر عصام فقيري، على اعتبار أن لكل قارئ رأيه، ومن ثم قراءته الخاصة، وفي الواقع هذه الرؤية مرفوضة لدي، لأنها لو كانت صحيحة؛ لم يقم حوار بين المشتغلين في الحقول المعرفية، ولم ينشأ ما يسمى بنقد النقد، أو نقد النظريات والمناهج، ولظل الفلاسفة، والعلماء، والنقاد، وغيرهم، أشبه ما يكونون بجزر متفرقة في محيط المعرفة، ليس بينها اتصال، أو تواصل، ولذا أقول: إن الرؤية التي تفضل القطيعة بين القراءات مرفوضة، لأنها تتجاهل الحوار الخلاق، الذي ينشأ بين النظريات الأدبية، وبين المناهج النقدية، على نحو يفرز العديد من النظريات والمناهج والرؤى الجديدة، وأما عن أين وصل خلافنا، ففي الواقع هو لم يتجاوز الآراء المتضادة حول قيمة النص المقروء، وحول مشروعية القراءة المنجزة عليه.
قليل الحضور في منصات التواصل والمنابر الثقافية، لكنه منتج في التأليف والكتابة، وقارئ ومتابع جيد للساحة الأدبية، أدرك مع المتابعة والقراءة والتحليل بعض مشكلات الساحة الأدبية لدينا وله العديد من الآراء حول ذلك يكشفها لـ«عكاظ» في هذا الحوار.
• لماذا ترى (كناقد أدبي) أن كثرة النكرات، والحروف الزائدة، وتوالي المضافات، والإكثار من المفاعيل أصبحت هنات غالبة في قصيدة اليوم ؟
•• من المؤكد أنه لا يمكنني التعميم، فالمتن الشعري العربي في منأى عن مثل هذه الهنات، ولكن الشعراء لدينا -أقصد في جازان- عددهم كبير، ومع ذلك قل أن تجد فيهم شاعرا مسكونا برؤى مختلفة، أو بلغة خاصة مبتكرة، ذلك أن الأكثرية تنزع إلى التقليد، وتستسهل قول الشعر، وحيث هم كذلك؛ فإن متننا الشعري تطفو على سطحه مثل هذه الهنات، وقلة فقط من الشعراء -كما أسلفت- يمكن التعويل على نتاجهم الشعري المختلف.
• المديح والإطراء تراهما ثقالة روح، وبلادة عقل.. هل يشمل هذا التوصيف الأدب والثقافة أيضاً؟
•• التمادحُ، لا يشي فقط بثقل في الروح، أو بلادة في العقل، وإنما هو حجاب أيضا، والملاحظ في المجموعات عبر الواتساب، وفي مختلف وسائل التواصل الاجتماعي أن الفئات المعنية بإنتاج الآثار الجمالية، من أدب، أو رسم، أو تصوير، تتوق إلى المديح، بل تستجديه -في كثير من الأحيان- فيما هي ترفض النقد الحقيقي، وعندئذ يصبح هذا «التمادح الاجتماعي» حجابا، يمنع عن المتمادحين فرصة اكتشاف جوانب القصور، ومن ثم فرصة التنمية، والتطوير.
• وماذا عن الطبع والتكلّف من منظور نقدي؟
•• الطبع والتكلف، مصطلحان نقديان عني بهما النقاد القدامى، من أمثال: الأصمعي، والجاحظ، وأبي هلال العسكري، وابن قتيبة، وغيرهم، وحتى تبلورا أخيرا في قضيتين نقديتين، هما قضية البديع، التي حمل لواءها أبو تمام، باعتباره شاعر الصنعة، والتكلف، وقضية عمود الشعر، التي مثلها شعريا البحتري، باعتباره شاعر الطبع، والسجية، وأرى أن الشعر وغيره من الفنون إنما ترتفع درجة إتقانها، وتحوز على جودتها، بالمراجعة، والتثقيف، والتنقيح، وأن محاولة الإنتاج دون إعمال الفكر، وإجهاده، إنما هو مظنة التفاوت بين الجودة والرداءة.
• أشياء كثيرة حولنا نألفها، لكننا في المقابل لا ندركها كقيمة، كيف؟
•• هذا كلام صحيح، ويذكرني بمقولة شوبنهاور: «كلّما قلّ حظ الإنسان من الذكاء بدا له العالم أقل غموضا»، والألف يزرع في ذهن الإنسان أنَّ ما يحيط به من أشياء، وظواهر، إنما هي من البساطة، والوضوح، بحيث لا تحتاج إلى مزيد فهم، بينما -في الحقيقة- أقرب الأشياء إلينا؛ بمجرد أن نفكر في ماهيتها، أو في آلية عملها، تستحيل فجأة إلى شيء معقد، يصعب فهمه، وهذا الكلام ينطبق على الزمان، والمكان، والروح، وحتى على طريقة مشينا على قدمين، فما أصعب هذه الطريقة، حينما نعيد النظر فيها من وجهة فيزيائية.
• هل من علاقة بين العقل الجمعي لدينا، والحساسية المفرطة التي باتت تسيطر على الأفراد بشكل كبير، وفي مقدمتهم النخب الثقافية؟
•• من المؤكد وجود صراع تاريخي بين العقل الفردي، الذي يطمح إلى أن يحقق ذاته، من خلال حريته، وقناعاته، والعقل الجمعي، المحكوم -عادة- بفكرة الآبائية، والعصبية، والعادات، والتقاليد، وضرورة الاتّباع، أقول من المؤكد وجود هذا الصراع في كل المجتمعات البشرية، منذ وجد الإنسان على هذه البسيطة، وليس الإشكال إلا في أن يتحول هذا الصراع إلى شكل من أشكال التنافي، فعندئذ تلجأ الأطراف المتصارعة إلى البدائل المضادة، ثم تنتقل من حيز التضاد، إلى حيز التناقض، ومثل هذه الحالة الأخيرة -من المؤكد أنها- لا تبني حضارة، وإنما تهدم الإنسان من أساسه، وحساسية النخب تجاه العقل الجمعي، لا شك أنها حالة إيجابية، ما دامت ترمي إلى التحقق الإبداعي، بالوسائل الأكثر تحضرا ووعيا.
• كناقد، ما أبرز مشكلات البحث الأدبي والنقدي اليوم؟
•• أظن أن من أبرز المشكلات التي يعاني منها البحث الأدبي والنقدي اليوم؛ هي غياب الرؤية النقدية ذات البعد الفلسفي، وكذا المنهج المؤسس على قاعدة نظرية صلبة، وليس الإشكال في عدم وجود مثل هذه الرؤى، وتلك المناهج، فمن المعروف أن هنالك نتاجا نظريا غربيا هائلا، وهنالك -أيضا- مناهج نقدية وافدة، سياقية، ونسقية، وإنما الإشكال يكمن في ضعف الوعي، بضرورة التلقي عبر إطار تقننه الأبعاد النظرية، والمسالك المنهجية، وعليه فإن الساحة -اليوم- تعج بعدد من النقاد، نلاحظ أن أكبر همهم التعبير الإنشائي، عما يخالجهم، تجاه الآثار الأدبية، التي تدغدغ أحاسيسهم، ومشاعرهم.
• لماذا تنبذ أفكار القطيع؟ وكيف تتعامل معها؟
•• دعني أستعمل عبارة: العقل الجمعي، بدلا من القطيع، لاعتبارات اجتماعية لا أكثر، وعن نفسي، بالفعل أنبذ أفكار العقل الجمعي، لما ذكرته في إجابة سابقة، ثم إنه ثبت بالوقائع أن التاريخ إنما ينحاز للأفراد، وأن الإبداع إنما يقع على عاتق الأفراد، وأن الخلود إنما يكون من نصيب الأفراد، وهل كان أفلاطون، وأرسطو، وامرؤ القيس، والمتنبي، ونيوتن، وآينشتاين، وغيرهم من الفلاسفة، والأدباء، والعلماء، إلا أفرادا؟.
• الفضاء الرقمي يمتلئ بالسرقات الأدبية والفكرية.. كيف يرى جبريل السبعي تعامل الناس مع هذه السرقات؟ وكيف تنظر إليها بوصفك ناقداً؟
•• الفضاء الرقمي ليس فضاء علميا، فالذين يرتادونه هم خليط من الناس، يتفاوتون في أعمارهم، وفي أخلاقهم، وكذا في مقدار علمهم، وفي درجة وعيهم، وهنالك اختلاف -أيضا- في الأماكن التي تقطنها هذه الكائنات الافتراضية، فهناك من يسكن في أقصى الشرق من الأرض، وهناك من يقطن في أقصى غربها، ومن الصعب تطبيق لوائح الحقوق الفكرية، على نحو رادع لجميع المنتحلين في أنحاء العالم، ولذا فمن طبيعة هذا الفضاء أنه يغص بالرفيع، والوضيع، بالجميل، والقبيح، على مستوى الكائنات الافتراضية (البشرية)، وعلى مستوى المعلومات التي تتناقلها هذه الكائنات.
• لك كتاب في «التوحش» وقد اعتمدت في تفسير هذه الظاهرة على البيئة.. حدثنا عن الكتاب، وعن الأسباب التي جعلتك تعتمد على البيئة في تفسير هذه الظاهرة، وانعكاسها على بقيّة الحالات؟
•• كتاب «التوحش» هو امتداد لكتاب سبقه عنونته بـ«الفوضى»، وفي «التوحش» سلطت الضوء على حالة اجتماعية، أصابت فئة الصعاليك والشذاذ، في الجاهلية وما بعدها.. إلى بداية العصر العباسي، وكان سبب هذه الحالة المتوحشة حالة من التضاد في بيئة الجزيرة العربية، حيث ولَّد التباين بين مناطق الخصب، ومناطق الجدب، حالة من الصراع الاجتماعي، كما أن هذا الصراع أدى -من جهة- إلى وجود حالتين اجتماعيتين، هما: العصبية القبلية في الداخل، والتحالفات السياسية مع القبائل الموالية في الخارج، ومن جهة أخرى، أدى -أيضا- إلى نبذ كل الذين لا ينتمون إلى القبيلة نسبا، أو عصبية، ومع مرور الوقت، كوَّنت هذه الفئات المبعدة عن القبائل؛ جماعات غاضبة احتضنتها الهوامش، فتربت في المجاهل، وتزودت بالرؤى الوحشية، وكانت تعدو على المناطق المأنوسة، بقسوة شديدة، ووحشية بالغة، وكان الهدف من هذا الكتاب، هو تشخيص أسباب التوحش، وكشف خطره.
• لاحظت أنك قدمت ورقة نقدية في إنتاج الدكتور عبدالحميد الحسامي، بعد أن قدّم ورقة نقدية في أحد أعمالك.. هل هذه القراءات استحقاق، أم رد جميل؟
•• الدكتور عبدالحميد الحسامي، والدكتور محمد سيد عبدالعال، ومن قبلهم الدكتور أسامة البحيري، والدكتور أيمن بكر، وغيرهم، كتبوا عن تجربتي النقدية، وليس في وسعي -حقيقة- أن أظل أجامل الذين كتبوا عني، فأكتب عنهم، ولكن قد تجد في نتاج الذين من حولك مادة يتطلبها موضوعك، فيكون حينئذ هذا النتاج خيارا موضوعيا، وهكذا وجدت النتاج النقدي للدكتور عبدالحميد الحسامي، عندما كنت مهتما بالاتجاه الواقعي في النقد العربي الحديث، وقد صادف أن جاء تناولي لنتاج الحسامي، بعد ندوته النقدية التي قدمها عن كتابي التوحش، الأمر الذي سوغ لوجود سؤالك الطريف.
• إلى أين وصل خلافك مع الشاعر علي الأمير؟
•• كان خلافي مع الشاعر علي الأمير على كيفية إنجاز القراءة النقدية، وعلى مشروعيتها، وهي مسألة موضوعية في الدرجة الأولى، وقد اختلفت -أيضا- ومازلت اختلف، مع الذين رأوا أنه ليس من الضروري، أن أناقش الأمير في قراءته للشاعر عصام فقيري، على اعتبار أن لكل قارئ رأيه، ومن ثم قراءته الخاصة، وفي الواقع هذه الرؤية مرفوضة لدي، لأنها لو كانت صحيحة؛ لم يقم حوار بين المشتغلين في الحقول المعرفية، ولم ينشأ ما يسمى بنقد النقد، أو نقد النظريات والمناهج، ولظل الفلاسفة، والعلماء، والنقاد، وغيرهم، أشبه ما يكونون بجزر متفرقة في محيط المعرفة، ليس بينها اتصال، أو تواصل، ولذا أقول: إن الرؤية التي تفضل القطيعة بين القراءات مرفوضة، لأنها تتجاهل الحوار الخلاق، الذي ينشأ بين النظريات الأدبية، وبين المناهج النقدية، على نحو يفرز العديد من النظريات والمناهج والرؤى الجديدة، وأما عن أين وصل خلافنا، ففي الواقع هو لم يتجاوز الآراء المتضادة حول قيمة النص المقروء، وحول مشروعية القراءة المنجزة عليه.