الآراء والمعتقدات (1926)/الفصل الأول: التوكيد والتكرار والمثال والنفوذ
الفصل الأول
التوكيد والتكرار والمثال والنفوذ
١ – التوكيد والتكرار
بحثت عن شأن العوامل التي درجتها في هذا الفصل في كثير من مؤلفاتي ، ولذا اكتفى الآن بتلخيص تأثيرها :
ان التوكيد والتكرار عاملان قويان في تكوين الآراء وانتشارها ، واليهما تستند التربية في كثير من المسائل ، وبهما يستعين رجال السياسة والزعماء كل يوم في خطابهم ولا يحتاج التوكيد الى دليل عقلي يدعمه ، وإنما يقتضى أن يكون وجيزاً حماسيا ذا وقع في النفس ، ويمكننا أن نعد البيان الآتي الذي نشر في الصحف نموذجا لهذه الصفات الثلاث.
« من ينتتج القمح ، أي الخبر الذي نحتاج اليه ؟ هو الفلاح ! ومن يزرع الجلبان والشعير والحبوب كاها ؟ هو الفلاح ! ومن مربي المواشي والأنعام ذات اللحوم الطرية ؟ هو الفلاح 1 ومن يربى الضأن للحصول على أصوافها ؟ هو الفلاح ! ومن ينتج الخمر والنبيذ ؟ هو الفلاح ! ومن يطعم الطرائد ؟ هو الفلاح !
« ولكن من يأكل أطيب الخبز وأطرى اللحوم : ومن يلبس أفخر الثياب ؟ ومن يشرب خمر ( بوردو ) و ( الشمبانيا ) ؟ ومن ينتفع بالطريدة ، هو ابن الطبقة العليا المثرية ! « ومن يتسلى ويسترنج كما يريد ؟ ومن يتمتع بأطايب النعم ؟ ومن يسيح للنزهة ؟ ومن يتفيأ في الصيف ويتدفأ في الشتاء و هو ابن الطبقة العليا المثرية !
« ومن يأكل طعاما غير شهى ؟ ومن يندر شربه للخمر ؟ ومن يشتغل بدون انقطاع ، ومن يكابد حمارة الصيف وصبارة الشتاء ؟ ومن هو شديد البؤس كثير الشقاء ؟ هو و الفلاح ! » والتوكيد لا يلبث بعد أن يكرر تكراراً كافيا أن يحدث رأيا ثم معتقداً والتكرار هو تتمة التوكيد الضرورية ، ومن يكرر لفظا أو فكراً أو صيغة تكريراً متتابعا يحوله الى معتقد ، و إذا نظرنا الى سلسلة الرجال التي تبتدىء بمؤسس الديانة لتنتهى بتاجر السلع رأينا أنها تستعين بمبدأ التكرار على إقناع الناس . والتكرار من القوة بحيث يجعل الرجل يؤمن بالكلمات التي يكررها ويسلم بالأفكار التي يعرب عنها عادة ، فلما رجا مجلس الشيوخ أن يهيء ( بومبى ) الكبير الاسباب اللازمة للدفاع عن الجمهورية قال هذا الاخير مكرراً إن يوليوس قيصر لا يهاجم روما ، والاعتقاد الذي أوجبه هذا التكرار في نفسه منعه من الالتجاء الى التدابير التي يمكنه أن يحمى بها روما و ينقذ رأسه من القطع ولو لأجل معلوم . ا والتاريخ السياسي حافل بالعقائد التي نشأت عن التكرار على الوجه المذكور ، فقد كان قادتنا وأولو الأمر منا قبل سنة ١٨٧٠ يقولون مكررين إن الجيوش الألمانية هي دون جيوشنا قوة ، وبفعل هذا التكرار اعتقدوا صحة ذلك اعتقاداً جازما ، وكل يعلم ما ذا كانت عاقبة الاعتقاد المذكور ، ولا يلبث الرجل السياسي بعد إقباله على آراء مفيدة له أن يعتنقها بتأثير نضاله عنها حتى يصبح غير قادر على تبديلها عند ما تقتضى منفعته ذلك التبديل
۲ - المثال
المثال هو أحد وجوه التلقين الفعالة ولكن يجب أن يكون ذا وقع في النفوس ليكون مؤثراً ، ففي عالم التربية نرى أن مثالاً بارزاً خير من مئات من الأمثلة الضعيفة التي لا تنفذ القلوب ، وقد أتيح لى أن أحقق هذا المبدأ عند ما روضت خيلاً شوامس ، إذ رأيت أن نكزها بالمهاز مرة واحدة أشد فعلاً من ضربها مرات عديدة ضر با خفيفا ا وقد تجلى تأثير الأمثلة البارزة التي تقرع النخيلة في تمرينات الجيش الكبيرة التي تمت سنة 1910 ، فقد كررت الطيارات حركاتها العادية دون أن تضيف اليها شيئا آخر سوى حمل البرقيات ، بيد أن هذه الفائدة المفترضة أيام الحرب جعلت الحكومة تعزم على تكوين فرقة للطيران وأوجبت أن يعلن وزير الحربية أن الطيران هو سلاح جديد تقتضى إضافته الى المشاة والمدفعية والخيالة . ، فقد وفى عالم السياسة نرى أن تأثير المثال في تكوين الآراء وانتشارها أمر قاطع أدى نجاح بعض مرشحى الاشتراكية لعضوية البرلمان الى اعتناق كثير من الاساتذة الشبان لأشـد مبادىء ذلك المذهب ضرراً وقد بين الموسيو ( بوردو ) ذلك في العبارة الآتية . « بينها نرى في المانيا شبيبة الجامعة وشبيبة الطبقة الوسطى الراقية تبتعد من الاشتراكية بعد أن دنت منها وتعود إلى حظيرة المشاعر القومية المتطرفة نشاهد الاشتراكية في فرنسا تثابر بالعكس على جمع جنودها من اساتذة الفلسفة وخريجي دار المعلمين فنازلاً . »
٣ - النفوذ .
تبحث رسائل المنطق بحثا دقيقا عن العناصر التي يتكون منها الحكم ، ومع ذلك سهت عن العدوى والنفوذ . والعدوى والنفوذ هما الناظمان لأكثر آرائنا . سأبحث عن العدوى النفسية في فصل آت ، وهنا أدرس النفوذ درسا موجزاً ، لأني قتلته تمحيصا في كتب أخرى . في المدارس يتعلم الطلاب أن التجربة والاختبار حلا مكان النفوذ ، ولكنه يسهل إثبات خطل هذا دون أن نلتفت إلى
- فلو نظرنا إلى الآراء العلمية -
الزعم : الآراء الدينية والسياسية والخلفية حيث لا شأن للدليل فيها –– لرأينا أنها في الغالب لا تملك سوى نفوذ قائلها وأنها تنتشر بالعدوى ، ولا يكون الأمر خلاف ذلك ، إذ نا من اكثر التجارب والاختبارات العلمية من التعقيد بحيث يصعب تكرارها فانه يسلم بكلام العالم الذي يشرحها ، ولذلك يحق لنا أن نقول إن نفوذ الاستاذ في الوقت الحاضر هو كما في زمن ( أريسطوطاليس ) ، ويزداد هذا النفوذ كلما أصبح الاختصاص الامامى أعظم منه في الماضي . ولكون النفوذ أساس أكثر الآراء التي تلقيها التربية في الذهن فأننا نتدرب على اعتقاد رأى يبديه عالم ذو نفوذ بسهولة ، أجل إننا قد نأتى بأحكام هي على جانب من الاصابة في مواضيع مهنتنا ، وأما المسائل الأخرى التي يأتى بها رجل نافذ فاننا نفضل أن نسلم بها تسليا أعمى على إعمال الفكر فيها مباشرة . ويتوقف مصير أقطاب السياسة وأرباب الأعمال والمتفننين والكتاب والعلماء على ما فيهم من نفوذ خاص وقدرة على تلقين الناس تلقينا غير شعورى ، وقد ينجح الأبله أحيانا في نشر رأيه ، لانه لما كان غير شاعر ببانه لا يتردد في توكيد رأيه ويصبح بذلك ذا نفوذ . وسنثبت بأمثلة بارزة - عندما نعود إلى هذا الموضوع في الباب الذي خصصناه للبحث عن المعتقدات بحثا تجربيا - ان النفوذ هو في الغالب أحد العوامل التي تجعل العالم التحرير معتقداً ، وللنفوذ الذي هو موجد الآراء وسيد العزائم قوة أدبية تعلو القوى المادية ، فلما عاد نابليون وحده من جزيرة ( إلب ) افتتح بنفوذه جميع فرنسا في بضعة أيام ، وقد خرست أمام إكليل مجده مدافع الملك وتشتت شمل جيوشه ، وقد كان نفوذ نابليون عظياً حتى أنه أثر في أعدائه ، فبدلاً من أن تمقت ( ماری كارولين ) - زوجة أمير عائلة البوربون المالكة – ذلك العدو الرهيب عدته الها ، وإليك ما جاء في إحدى رسائلها . إن بونابارت هو أعظم رجل أظهرته العصور ، فأعجب به من رجل قوى ذي نجدة ومروءة ونشاط وعبقرية لا تبارى ، و يا سعادة الأمة التي يوجد على رأسها ملك مثله ! ، ولذلك تراني على ما في من كره للنظام الجمهوري وحب لتقويض دعائمه أرجو بقاء بونابارت . . D وقد كان شأن النفوذ في شوكة الملوك فيها الى الغاية ، حتى إن ( باسكال ) قال : « يجب على المرء أن يكون ذا عقل نقى خالص لكى ينظر الى ملكه - وهو في قصره الذي يحرسه أربعون ألف جندي – كما ينظر الى بقية الناس . » ، وفى الجيل الحاضر الذي هو جيل المساواة نرى نفوذ الملوك لا يزال محافظاً على شأنه ، فيجمل بالملوك أن يحافظوا عليه بحكمة ، كتب الموسيو ( نوزيار ) مراسل احدى الصحف المهمة : « أن جميع من حضروا جنازة ملك انكلترا قـد عجبوا من تأثير امبراطور المانيا في الجمع حينما كان يمشي في وسط الملوك ، حقاً إن غليوم يكتسب اعتقاده أنه ظل الله في الأرض عظمة غريبة تدهش الناس . »
والجماعات نظراً إلى احتياجها الى العبادة لا تلبث أن تعبد أشخاصا يؤثرون فيها بنفوذهم ، والزعيم لا يحافظ على نفوذه بالتملقي لها ، فهي وإن كانت تبحث عن مداهنين لها إلَّا أنها سرعان ما تحتقر من يتملقها .
ومع أن النظام العسكرى يقوم على نفوذ الضباط فإن جهل روح الجماعات أدى إلى ترك هذا المبدأ، إذ قد أمر الضباط بأن يعاملوا الجنود كاخوة وأن يبذروا فيهم الطاعة بقوة الحجة والبرهان ، يرضى ابن الطبقة الدنيا مختاراً بمثل هذا المبدإ ، ولكنه يحتمر ضباطه الذين يطبقونه كثيراً ، وماذا يكون مصير الجيش بعد أن يخسر هؤلاء نفوذهم ؟
و ينشأ بعض الفوضى الحاضرة عن كون رخاوة الطبقات القائدة قد جردتها من نفوذها ، وما مصير الملوك والشعوب والأفراد والنظم وكل عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية سوى الاضمحلال عندما لا يبقى لهم نفوذ يؤثرون به .
يمكننا أن نلخص تأثير الاسباب في انتشار الآراء والمعتقدات التي ذكرناها في هذا الفصل بالكلمات الآتية وهى . لا رأى أولا معتقد يظهر بلا نفوذ ، ولا رأى أولا معتقد يسيطر بلا توكيد ، ولا رأى أو لا معتقد يبقى بلا مثال ولاتكرار .